Webmail - login

     

 
 

 

 
 

كل إنسان يختلف عن الأخر. ولكل فرد تاريخه ومزاياه وهويته الفردية التي تميزه عن غيره. وهكذا بالنسبة للرهبانيات. فلكل رهبانية شخصيتها وميزاتها وهويتها التي تفرزها وتميزها عن غيرها من الرهبانيات. هناك مئات من الرهبانيات في الكنيسة الكاثوليكية، لكل منها طريقتها وأسلوبها وهويتها في التشبه بالمسيح، وفي تلبية مختلف حاجات الكنيسة، وحمل بشرى الخلاص. ولرهبانية الوردية المقدسة، طابعها الخاص، وهويتها التي تميزها عن غيرها، والتي تعود بالخير على الكنيسة. جاء في وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني " تجديد الحياة الرهبانية"  "تقتضي مصلحة الكنيسة نفسها، أن يكون للمؤسسات طابعها الخاص ومهمتها الخاصة. ولذلك وجب العمل بأمانة على إظهار روح المؤسسين ومقاصدهم الخاصة، وتقاليد المؤسسة السليمة والمحافظة عليها، إذ أنها تكون بجملتها تراثا مكملا للمؤسسة " (رقم 2، فقرة ب).  لا يمكن أن نحكم على حقيقة المسيرة التاريخية للرهبانية، إلا انطلاقا من تراثها الروحي وأهدافها الرسولية والرهبانية، وبالتالي لا بد من التعرف على هويتها الشخصية في روح مؤسسيها وفي أهدافهم التي توخوها . ونعني بروح المؤسسين وروحانيتهم تلك المواهب الخاصة الفائقة الطبيعة، التي بها أحبوا الله، والتي منها تستقي الرهبانية لتحيا ولتكون ما يجب أن تكون في كنيسة الله.
إن تأسيس رهبانية الوردية قرار سماوي وجد تجاوبا وترحيبا لدى من اختارتهم الأم البتول لتنفيذه. فالصفحات الأولى لنشأة الرهبانية تكشف لنا:

 

يد العذراء سلطانة الوردية

"أريد أن تؤسسي رهبانية الوردية"

إن المؤسس الأول والحقيقي للرهبانية هي الأم البتول، سيدة الوردية المقدسة. ليس من السهل أن نقول ذلك، إلا أن هذا القول لا يحمل في طياته أية مغالاة، وهو الحقيقة الواقعية المجردة. تسلسل الوقائع في حياة المكرمة الأم ماري الفونسين التي كانت لا تزال راهبة في رهبانية القديس يوسف، في بيت لحــم تثبت هذه الحقيقة: فقد ظهرت مريم العذراء سلطانة الوردية المقدسة لأمتها الأخت ماري الفونسين في 31/5/1874 وشاهدت الرائية مكتوبــــا فوق إكليل الأم البتول هـــذه الكلمــات : " عذارى الوردية السريّة".

كذلك في مساء عيد الغطاس 6/1/1875 ظهرت لها الأم البتول حاملة الوردية كالمرة الأولى مع صفين من البنات، إلى يمينها وإلى يسارها وكان مكتوبا " عذارى الوردية/ رهبانية الوردية " وسمعت صوت الأم البتول في قلبها يقول :" أريد أن تؤسسي رهبانية الوردية ".

ومرة أخرى أخذت العذراء بزمام المبادرة وأوحت إلى الراهبة حلما نبويا يرسم معالم المستقبل رسما أكثر وضوحا فكتبت الأم الفونسين قائلة : " وفي غضون ذلك رأيت في الحلم أمي مريم البتول تحيط بها عذارى عديدات... ثم قبضت مريم على يدي بشدة وقالت " أريد أن تؤسسي رهبانية الوردية. أما فهمت بعد ؟ " دبّ الذعر في روعها لدى سماعها الكلمات الأخيرة فتوسلت إلى العذراء: " أرجوك أن تقبلي أختي حنة وأن تكلي إليها هذه الخدمة". فأجابتها العذراء: " إني أقبل أختك استجابة لطلبك، فاتكلي على رحمتي ولا تخافي... والآن أشير عليك أن تنشئي هذه الرهبانية وأنا معك. وكوني على ثقة بأن أخوية الوردية ورهبانيتها ستنجح وتتوطد إلى يوم الدينونة، بشرط أن تباشريها طبقا لأوامري وإلهاماتي" ثم أمسكت بيدي بقوة وعلقت في عنقي الوردية التي كانت بيدها وقالت لي :" أنا أمك، أعينك وأساعدك". قالت هذا وتركت يدي. وتابعت القول :" ابدئي العمل واقصدي في بادئ الأمر البطريرك منصور وبلغيه ذلك، فهو الذي يدبرك لأن إرساليات أبرشيته وغيرها ستزدهر بالوردية ".

في بداية عام 1876 رأت الأم ماري الفونسين السيدة العذراء مرة أخرى وحولها فوج من العذارى يرتدين ثيابا بيضاء وزرقاء. وطلب منها الأب أنطوان بلوني مرشدها أن تقيم تساعية صلاة لتستطلع مقاصد العذراء ولتستعد لتنفيذها. ولما انقضت الأيام التسعة المطلوبة تراءت مريم لأمتها، يحيط بها هذه المرة جمهور غفير من العذارى وهنّ مرتديات ثيابا رهبانية زرقاء وبيضاء كثوبها، وبعد أن نظرت إليها بعطف ومودة، قالت لها استجابة لصلواتها:

"متى تبدئين تأسيس رهبانية الوردية؟ تشجعي وتممي أمري. أما فهمت؟ إني أريد رهبانية الوردية، رهبانية الوردية. فلسوف تزيل من الأرض كل شرّ وبليّة ".
في هذه المرة لم تتقاعس الأم ماري عن حمل المسؤولية، ولم تظهر أدنى تردد وفتور، بل خرّت أمام قدمي العذراء متوسلة قائلة :" يا أمي امنحيني الوسائل اللازمة فإنني مستعدة فأردفت العذراء: " إن الوردية هي كنزك، فاتكلي على رحمتي وثقي بالجود الإلهي، وأنا أعينك " ثم ألقت عليّ السبحة من يدها وغابت.

وبعد ذلك بمدة وجيزة ظهرت لها العذراء مرة أخرى... " إني أثبتكنّ باسم أفراحي وباسم أحزاني وباسم أمجادي " قالت هذا وغابت.
وفي ظهور ثالث، جرى ليلا. شاهدت الأم ماري الفونسين القديس يوسف، فأسرعت إليه تشكو له همها الشديد، فسألته: كيف أعمل لأبدأ تأسيس رهبانية الوردية وأنا في رهبانية القديس يوسف؟ فأجابها بقوله " أريد أن تتمي بفرح ما أنت مدعوّة إليه " وأضاف مشيرا بيده إلى العائلة المقدسة: " إننا قد فرحنا وحزنا وتمجدنا معا. وأريد أن تخرج من رهبانيتي رهبانية الوردية ". وشعرت الرائية بالفرح والثقة وعزمت على تنفيذ إرادة العذراء، بحذافيرها مهما كلفّ الثمن.

وتوالت الرؤى النبوية وتبلورت لدى الرائية الخطوط العريضة التي ستسير عليها الرهبانية. فهي في الدرجة الأولى رهبانية مريمية تتلى فيها الوردية ليل نهار فقد قالت لها العذراء: " إن من الضروري أن يكون في الدير وردية دائمة تتلوها الراهبات والبنات" وتتابع الأم ماري قائلة: وكنت أشاهد الراهبات قاطبة يمارسن طاعة تامة إكراما لأسرار فرحها الإلهي وفقرا مدقعا إكراما لأسرار حزنها، وعفة فائقة إكراما لأسرار مجدها. وكنّ بهذه الفضائل الثلاث يكرمّن سيدة الوردية فتبتهج بذلك وتزيّن نفوسهنّ بالمواهب السماوية، وتسكب عليهنّ رغبة في السير على طريق الفضيلة الإنجيلية والكمال الرهباني .

لم تكتفٍِِ الأم البتول سلطانة الوردية المقدسة بأن ظهرت للأم ماري الفونسين وطلبت إليها بأن تؤسس الرهبانية، بل أخذت توجه تفكير الكثيرات من الفتيات التقيات، وبخاصة في بيت لحم والقدس إلى الحياة الرهبانية، وإلى المطالبة برهبانية جديدة حيث يتمكّنَّ من تكريس ذواتهنّ لله وللعمل الرسولي في حقل الرب، فبعد إحدى الظهورات أقبلت إحدى طالبات الأم ماري الفونسين تهمس في أذنها أمرا يتعلق بالمهمة الجديدة، وكتبت الراهبة فيما بعد لمرشدها تقول:  

" ما إن مرّت ثلاثة أيام على ذلك، حتى حضرت إحدى بنات الأخوية تقول: إنها بينما كانت تحضر القداس الإلهي أُلهمت أن تبلغني أن أنشئ رهبانية باسم الوردية المقدسة تنضم إليها بنات جنسنا " .

وكان العديد من فتيات بيت لحم يطالبن بتأسيس رهبانية عربية، وفي القدس أقبلت إلى الأب يوسف طنوس عدة فتيات ينتمين إلى أعرق العائلات المسيحية وأعربن عن استعدادهنّ للتضحية وبذل الذات، فبادر إلى إشراكهن في نشاطاته الدينية والاجتماعية، وعمّق فيهن روح التفاني والتضحية. وجاء هذا التطوع في أوانه.

-وكتبت الأخت حنة دانيل غطاس بشأن فترة ما قبل الشروع في إنشاء الرهبانية قائلة:" إنني أنا الحقيرة حنة دانيل غطاس، قد خطر ببالي ابتداء دير الوردية وتحرك قلبي وانعطفت إرادتي وقصدت بفكري لأعتني وأتمم بكل جهدي هذا الفعل الخلاصي المفيد.

وذلك في يوم أخر الرياضة المقدسة التي تمت في شهر أيلول سنة 1877 ، في دير راهبات مار يوسف في بلدنا في أورشليم... شرحت لحضرة لبيبة راحيل وبعده لحفيظه ولشقيقتي روجينا، شرحت لهنّ فكري وقصدي... فهنّ جاوبنني بأنهنّ قد أُلهمن مثلي ويرغبن مثلي من صميم القلب أن نكون معا سوية لبداية وتتميم الرهبانية المذكورة.

ففي اليوم ذاته قد أوضحنا رغبة قلوبنا لحضرة معلمتنا الأخت أنجيليك لكي توضح لقدس أبوتكم المحترمة، رغبة قلوبنا، منوبة عنا بترجي قدسك بأن تبذلوا جهدكم بفتح دير الوردية لأجل مجد أمنا مريم البتول... ثم اتفقت معنا أمينة حبش وسلطانة البينا وأختها، وكنّا نكرر على الأخت أنجيليك طلبتنا... وبحيث أمنا البتول تنازلت منعطفة نحو صغرنا وحقارتنا محركة قلوبنا وإرادتنا لخدمتها... ها نحن بهذا الانتظار حاضرات لتتميم أمرك المطاع.. لخدمة أمنا مريم البتول سيدة الوردية".

أما كهنة البطريركية والبطاركة فكانوا يلمسون أكثر من غيرهم حاجة الرعايا إلى راهبات عربيات، وكانوا يتألمون أكثر من غيرهم لوضع الفتيات والأمهات المأساوي ولعدم تمكنهم من العمل من أجلهنّ ، وتثقيفهنّ روحيا ودينيا واجتماعيا، بسبب عوائد المجتمع التي لم تكن تتقبل ذلك عن يد الكهنة.

وقد كتب البطريرك منصور براكو بعد زيارته لرعية الفحيص يقول:" عندما وصلت إلى قرية الفحيص، هرع الرجال لملاقاتي، أما النساء فقد تجمعنّ في جمهرة واحدة وكنّ يطلقن صرخات الفرح على طريقة خاصة بهنّ (الزغاريد) ولما دخلتُ الكنيسة انسحبن كلهنّ عائدات إلى بيوتهنّ، والرجال وحدهم تبعوني.

وأخذ يفكّر بإنشاء رهبانية نسائية محلية تسير جنبا إلى جنب مع الإكليروس، من أجل تربية الفتيات تربية مسيحية وعلمية لرفع شأنهنّ روحيا ودينيا واجتماعيا.

لقد كان هنالك عجينة صالحة- فتيات ورعات- في القدس وبيت لحم وفي أماكن أخرى خمّرتها العذراء سلطانة الوردية لطلب الكمال الرهباني في رهبانية الوردية وللعمل في حقل الرب في الديار المقدسة.

 

" طوبى للتي آمنت سيتم ما بلغها من عند الرب "

لقد اختارت العذراء سيدة الوردية أمتها المتواضعة الأم ماري الفونسين للشروع في تأسيس هذه الرهبانية. ولكن من هي هذه الراهبة التي وقع عليها اختيار الأم البتول وبقيت مجهولة حتى سنة 1927 ؟ اسمها في العالم " سلطانة " وهي ابنة دانيل فرنسيس عيسى غطاس وأمها كترينا انطوان يوسف. وكانت عائلة السيد دانيل تقطن القدس وقد تميزت بالتقوى وممارسة الشعائر الدينية وإكرام الأم البتول. ولدت سلطانة في القدس الشريف، مدينة الفداء في 4/ 10/ 1843 أي خمس سنوات قبل قدوم البطريرك اللاتيني الأول، يوسف فاليرغا الذي وطّد العزم منذ استلامه كرسيه على توفير المزيد من التربية المسيحية للأجيال الصاعدة.
 

وقد وجّه غبطته نداء إلى عدد من الرهبانيات يستقدمها إلى الديار المقدسة، فلبّت النداء أولا راهبات القديس يوسف، فوصلن إلى القدس في 14/8/1848 وافتتحن مدرسة في القدس ولما كانت هذه المدرسة ناجحة جدا، فقد افتتحن عددا من المدارس الأخرى في يافا 1849 وبيت لحم 1853 والناصرة 1857 وفي عدد من الرعايا الموكولة للآباء الفرنسيسكان في فلسطين كما وفي رام الله ونابلس وبيت جالا. ثم لبت نداء البطريرك راهبات الناصرة اللواتي وصلن إلى الناصرة سنة 1858.

وكانت سلطانة من الفوج الأول الذي باشر الدراسة في مدرسة راهبات مار يوسف في القدس. ولما وافق والدها على التحاقها برهبانية القديس يوسف اشترط ألا تغادر سلطانة أرض الوطن بأي حال. فدخلت سلطانة الإبتداء في 30/6/1860 وارتدت ثوب رهبانية القديس يوسف على الجلجلة حيث نذرت في ما بعد نذورها الأولى. وعُيّنت مدرّسة في القدس واشتهرت بتقواها وتواضعها، واهتمت في القدس " بأخوية الحبل بلا دنس " للفتيات وأخوية أخرى للأمهات... ثم نُقلت إلى بيت لحم، حيث اعتنت أيضا بأخويات للبنات وللنساء، وهناك حظيت بظهورات العذراء والتي اقتبسنا منها ما أوردناه سابقا وسنذكرها بالتفصيل لاحقا.

التحقت الأم ماري الفونسين في ما بعد برهبانية الوردية، بالطرق الكنسية القانونية، وبقي سرّها مكتوما حتى مماتها يوم عيد البشارة سنة 1927. وكان مرشدها الأب يوسف طنوس قد أمرها بأن تكتب ما رأت من رؤى وما سمعت. وقبل وفاتها بأيام معدودات قالت لأختها حنة رئيسة الدير:" بعد موتي اذهبي إلى مكان كذا فتجدي دفترين مكتوبين بخط يدي، خذيهما وسلميهما إلى البطريرك برلسينا": فنفذت الأخت حنة رغبتها بعد مماتها. ولما كان البطريرك برلسينا يجهل العربية، طلب إلى الأم أغسطين ترجمة تلك الصفحات، ثم أمر بإعادة المخطوطين الأصليين إلى الرئيسة العامة التي اطّلعت على محتوياتها فسطعت الحقيقة كالشمس وقدّر الجميع آنذاك تلك الراهبة الوضيعة التي بقي سرّها وسرّ العذراء محجوبا عن العيون زمنا طويلا .

وفيما يلي محتوى الدفترين الذين اطلعت عليهما الرئيسة العامة لرهبنة الوردية آنذاك وسطعت حقيقة الأم ماري الفونسين من خلالهما بأنها المؤسسة الحقيقية لرهبنة الوردية المقدسة وهما مكتوبان طبقا لنسخة بخط اليد عام 1879

 

 

المخطوط الاول  >>>

المخطوط الثاني  >>>

 
 

HOME