Home

 

راهبة الوردية والعمل الرسولي

 

لدى إعادة تأسيس البطريركية اللاتينية في القدس عام 1848، كانت المعطيات الاجتماعية والدينية والفكرية مختلفة جداً عما هي عليه اليوم. كما أنّ الإطار الجيوسياسي الذي كان سائداً في تلك الحقبة يخضع لعوامل خارجية كانت تدير دفّة الأمور فتنعكس سلباً أو إيجاباً على الحياة بكل جوانبها. إستعان البطريرك الشاب المتحمّس فاليرغا والعارف بدقائق الأمور، بكهنة أوروبيين وفرنسيسكان لمساعدته في تأسيس الإرساليات في شتّى مناطق الأبرشية، فلسطين والأردن وقبرص، كما استقدم رهبانيات نسائية، كراهبات القديس يوسف عام 1848،وراهبات الناصرة عام 1854، وراهبات صهيون عام 1856، لفتح الأديار والمدارس والمستشفيات ودور الأيتام في الأبرشية. وفي عهد خلفه البطريرك منصور براكو جاءت رهبانيات أخرى كالراهبات الكرمليات، وراهبات قلب مريم الطاهر وراهبات المحبة وغيرها من الرهبانيات الرجّالية والنسائية لخدمة المجتمعات المحلية والمؤمنين. وكان تعامل هذه الرهبنات مع الوضع القائم، الذي كان يخيّم على هذه المجتمعات، صعباً للغاية، نظراً للجهل والظلم والتهميش التي كانت تتّصف بها تلك الحقبة، وكذلك بسبب مواقف الريبة والحذر التي كان الناس يتّخذونها حيال الأجانب، ناهيك عن الجهل الكبير في أمور الدين. وكان للمرأة حصة كبيرة من هذا الواقع تعود بشكل رئيس إلى غياب المدرسة والتوعية والتوجيه واستسلام الناس للخرافات والشعوذة والسحر. كان اهتمام الكهنة وتأثيرهم يَنصبّان خاصة على الرجال نظراً لاقتصار التعامل والعلاقات الاجتماعية عليهم فقط. وهذا ما حدا بالبطريرك فاليرغا، ذي البصيرة الثاقبة والفطنة وبُعدِ النظر، للتفكير في إنشاء إكليروس وطني يعنى بالمؤمنين، ويتفهّم عقليتهم، ويستوعب حاجاتهم ومشاكلهم، ويكون محطّ ثقة الناس. وبشكل متوازن مع هذا التوجه الكريم، شجّع البطريرك فاليرغا وخلفه منصور براكو على تأسيس رهبنة عربية، من بنات البلاد، لتهتم بشؤون المرّأة، وترعى تربيتها، وتنعش فيها الإيمان وتعيد لها الكرامة والاعتبار لتحتلّ مكانتها الطبيعية في العائلة والمجتمع. فكانت الفكرة بتأسيس رهبنة وطنية، تبنّى أمرها، في البداية، كاهن غيور من كهنة البطريركية هو الأب يوسف طنوس يمَين، فالتقت هذه الفكرة مع مخطط السماء الذي أعدته العناية الإلهية لهذه الأرض المقدسة من خلال ظهورات العذراء للطوباوية ماري ألفونسين، التي كانت راهبة في رهبنة القديس يوسف حيث قالت لها العذراء" أريد أن تبتدئي رهبنة الوردية ... متى تبتدئي رهبنة الوردية؟ تشجعي وتممي أمري أما فهمت إرادتي ؟" (كتاب زنبقة مقدسية) وما كادت تكشف هذا الأمر للأب يوسف طنَوس حتى تلقفه هذا الكاهن ليترجمه في الواقع، تحقيقاً لرغبة العذراء، فكانت رهبنة الوردية التي نعرفها اليوم.

ورغم الصعوبات والعقبات وضيق ذات اليد، توزّعت راهبات الرعيل الأول المتّقدات غيرةً وحماساً للعمل الرسوليّ، اثنتين اثنتين،على غرار تلاميذ المسيح، ( مرقس 6: 7) تحت راية العذراء، على الإرساليات الجديدة المنتشرة في حدود الأبرشية، بدءاً بالقدس والمدن الفلسطينية حيث دبّت روح جديدة، وخيمت أجواء مبشرّة ومشجّعة في نفوس المؤمنين والمواطنين على السواء. تمكّنت هذه الكوكبة الرائدة من وضع حجر الأساس لبنيانٍ ارتفع واتّسع حتى شمل معظم مناطق فلسطين والأردن وامتدَّ إلى لبنان وسوريا ومصر والخليج وروما.

فتكفّلت الراهبات بإنشاء المدارس أو تطويرها. فأخذ العمل الرسولي للراهبة ينطلق من المدرسة إلى البيت فالمجتمع فالبيئة الحاضنة لها. كان للراهبة دور ذو أبعاد متفرِّعة، فإلى جانب البعد التعليميّ التربويّ الذي أحسنت التعامل معه واحتواءه، بفضل التعامل الإنساني المتميّز، والروح الرسوليه الصادقة، والعلاقات الإنسانية الطيّبة التي أقامتها، دأبت راهبة الوردية على نشر الوعي الديني والتثقيف الاجتماعيّ والانفتاح على أحداث المجتمع والعالم، بمحبه كبيرة، وغيرة متّقدة، وتواضع وفرح وتهلّل. فقد كسبت الراهبة، بتفانيها الملفت، وتعاملها الإنساني الراقي، ثقة المرأة والفتاة وسائر عناصر المجتمع، الأمر الذي سهّل مهمتها، ويسّرَ أمرها في تحقيق ما تصبو إليه. وقد كانت السبحة وممارسة الفضائل، والتقيّد بالنظام والقانون، أهمّ سمات رسالة الراهبة العابقة بأريج الطاعة والتواضع والخضوع. وبفضل الجهود المضنية التي بذلتها بسخاءٍ لا حدود له وبتفانٍ مجبول بماء الصبر والأمانة أوصلت صوتها ومدّت جسور التعاون والحوار والتواصل، في جميع مراحل نمو الوردية وتطورها، مع الطلبة، ومن خلالهم، مع البيت والعائلة ومختلف فئات المجتمع، ومع المدرسين والعاملين في الوردية التي تأصلت في تربة المجتمع وضمير الناس. كما تَمَتَّنت العلاقات مع مؤسسات المجتمع فانعكست صورة الوردية ورسالتها الإنسانية ودورها الرائد على بناء شخصية المرأة العربية.

وهكذا أتيح للراهبة أن تتواصل مع المجتمع وتفرض وجودها وحضورها، مؤثّرة ومتأثّرة بطريقة تكاملية، الأمر الذي ساعدها على غرس بذور المواطنة الصالحة والانتماء الوطيد في قلوب الأجيال المتعاقبة، لتنمو وتثمر وتعطي أجواء من التعايش والتسامح والتعاون في كافة المجالات.

وجدير بالذكر أنه في الوقت الذي فيه كانت المدرسة مغيَّبة، والجهل يجثم على عقول الناس، كان لمدارس الوردية الدور الرائد والأكبر في تأمين جانب كبير من التعليم والتثقيف والتوعية. وكان لمساهمتها في تقدم المجتمعات والانفتاح ونشر المعرفة حصة الأسد. كل ذلك عمّق في راهبة الوردية مفهوم العمل الرسولي فانعكس إيجاباً على روحانيتها وحياتها الرهبانية، وتجلَى من خلال رضاها بالتضحية وحياة الزهد، وتحملَها شظف العيش، وتعزيز محبتها للآخر واهتمامها به روحياً ودينياً واجتماعياً وصحياً. نظرة خاطفة إلى خرّيجي وخرّيجات مدارس الوردية تؤكدّ لنا ذلك بكل جلاء ووضوح فها هم يتبوّؤون أعلى المراكز، ويحتلَون أرقى المناصب، يخدمون أوطانهم بملء الأمانة والإخلاص والكفاءة. ويكفي أن نشاهد التقدير والاعتبار والثقة التي تحظى بها رهبنة الوردية ومؤسساتها في كل أماكن تواجدها.

تجاوزت رسالة راهبة الوردية حدود التربية والتعليم إلى مضامير أخرى من الحياة الرسولية، فأخذت ومنذ تأسيس الرهبنة، على عاتقها الاهتمام بشؤون المرأة المسيحية لتجعل منها خميرة جيدة لنمو العائلة المسيحية في المجتمع الشرقي، ودمجها فيه لتلعب دورها الأصيل وتساهم في رقيّه. وتعهدت الفتاة بالرعاية والحنان وسلحتها بالعلم والمعرفة لتعمل منها أساساً صالحاً للعائلة المسيحية والمجتمع، فأنشأت الأخويّات للأمهات وللفتيات مما ساعد على توعيتهن دينياً وثقافياً ليمسكن زمام أمورهنَّ ويقدن العائلة إلى مرفأ الأمان وسط بحر من الجهل والانغلاق. فتوطدت، بهذا، فكرة الكنيسة البيتية وأهميتها لتنشئة جيل مؤمن ملتزم وواع. كما وركَزت راهبة الوردية على تسليح المرأة بكل ما يساعد على تنمية شخصيتها الثقافية والاجتماعية، عن طريق تدريبها على بعض المهن، كالخياطة والتطريز والتمريض، ليتسنّى لها الانخراط في الحياة العملية وتحسين دخلها ورفع مستوى معيشتها ومعيشة عائلتها. فأقامت المؤسسات المهنية والأكاديمية والمستوصفات والمستشفيات ودور الأيتام. وقادها هذا التوجه إلى الانفتاح على المجتمع المحلي ومؤسساته الرسميّة والخاصة.

إن "كل راهبة منا مدعوَّة شخصيَا إلى الرسالة، ولكن ليس بمعزل عن أخواتها الراهبات ، لأننا كرّسنا أنفسنا لخدمته في جماعة رهبانية، ومن ثمّ يجب أن نقوم بأعمالنا الرسولية متكاملات".(القانون بند 95) : وكما قال بولس الرسول بفرح معا في خدمة الرب الواحد نفعّل " المواهب المختلفة باختلاف ما أوتينا من النعمة فمن أوتي الخدمة فليخدم، ومن أوتي التعليم فليعلّم.( روما 12: 6- 8 )

لم يقتصر عمل الراهبة الرسولي على الكنيسة المحلّية بل تعدّاها إلى الكنيسة الجامعة. وما تواجُد راهبات الوردية في سفارة الكرّسي الرسوليّ في القاهرة إلا بداية لهذا التوجه الجديد. وهناك مراكز أمست تستقطب العديد من النشاطات الشبيبية والكنسية والرعوية والطلاّبية، كبيت الزيارة في الأردن، وبيت مري في لبنان على سبيل المثال، حيث تعقد المؤتمرات واللقاءات والرياضات الروحية وغيرها من مختلف النشاطات.

وهكذا نمت حبة الخردل التي أُلقيت في تربة الوردية، وكبرت، وترامت أغصانها شجرة باسقة مباركة، في كلّ الاتجاهات ترويها أنهار سخية نابعة من روحانيّة مركَزة على سبحة الوردية، التي نتّخذها سبيلاً إلى التأمّل في أسرار المسيح، ومدرسة حياة إنجيلية، وحافزاً لغيرتنا الرسوليّة ( القانون بند 97 ). كما ركّزت على الحياة التأمّلية والصلاة، التي تعلّمتهما في مدرسة الأم البتول التي تخرّجت منها بامتياز، وبمرتبة الشرف، الطوباوية المؤسسة ماري الفونسين، هذه الراهبة المتواضعة التي بتضحياتها وزهدها وتجرّدها وأمانتها وإخلاصها، جسّدت رسالة الورديّة بكلّ أبعادها الترّبوية والتعلّيمية والاجتماعيّة والإنسانيّة وأورثتها للأجيال المتعاقبة من بناتها الراهبات.

                                                                                الأخت مدلين دبابنة

                                                                                    راهبة وردية