سجل الزوار

 اضفنا للمفضلة

اتصلوا بنا

الرئيسية

 

رسالة وداع ومحبة.. آخر كلمات البطريرك فؤاد الطوال لأبناء الأبرشية اللاتينية

 


إلى إخوتي الأساقفة الأجلاء والنواب البطريركيّين والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات والإكليريكيين والمؤمنين الأعزاء في الأردن وفلسطين وإسرائيل وقبرص، نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبّة الله وشركة الروح القدس معكم جميعًا.

أكتب إليكم هذه الرسالة، وقد أنهيت رسالتي بطريركًا على المدينة المقدسة، بعد أن صليت معكم، وعملت معكم، ومعًا "جاهدنا الجهاد الحسن"، وخدمنا كنيستنا وأحببنا جميع الكنائس. ومعًا حملنا آلام المدينة المقدسة في مجتمعنا الذي ما زال يصارع الموت والكراهية منتظرًا نور القيامة وزمن الكرامة والعدل والسلم.

مررنا في هذه السنوات الماضية بشدّة لا تخفى على أحد. ولكن شدّدنا الله بنعمته، فتابعنا مسيرتنا ورسالتنا. صلينا معًا، وفي المحنة صبرنا معًا. والآن أعيد الرسالة إلى الله الذي حمّلني إيّاها، وإلى قداسة أبينا البابا فرنسيس.

أبدأ فأشكر الله على كل ما منحني إياه من نعم، من لطفه وبشفاعة صلواتكم. أشكركم جميعًا لاستقبالي وقبولي راعيًا وأخًا وخادمًا لكم مدة السنوات الماضية. أشكر لكم صلواتكم وحبتكم وتعاونكم. أشكر وأقدّر كل جهودكم أنتم، كهنتنا الأعزاء في البطريركية، ومعكم كلّ الكهنة في الأبرشية من كل الرهبنات التي خدمت الرعايا معنا بمختلف لغاتها وقوميّاتها. وهنا أشير وأشيد بالجماعة الناطقة باللغة العبريّة.

أشكر كلّ الرهبنات وعلى رأسها حراسة الأرض المقدسة، بكل مؤسساتها، لتضحياتها وخدماتها الكثيرة. أشكر وأقدّر كل الجهود المبذولة من قبل الجميع في الرعايا والمدارس وجميع المؤسسات التعليمية والاجتماعية.

أحيي وأشكر المؤمنين الأعزاء، والحركات الرسولية وجماعات الصلاة. وأبتهل إلى الله أن يحفظكم جميعًا وأن يتقبل منكم، ويزيدكم نعمة ومحبة. كلنا نعمل لمجده تعالى. من أجلكم جميعًا صليتُ وخدمت وسألت الله أن يمنحنا بركته ويشملنا برحمته. ومن أجلكم سأستمر في الصلاة وفي الخدمة بقدر ما يشاء الله لي أن أخدم.

أشكر أخيرًا كل من أرسله الله على طريقي لأخدمه أو ليمّد هو لي يد العون. ولا أنسى في شكري وتقديري وحبّي كل الأبرشيات الكاثوليكية وجمعية فرسان القبر المقدس في العالم التي حملت الرسالة معنا. وكذلك مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية، وكل الكنائس في الأرض المقدسة، ومجلس الأساقفة اللاتين في البلدان العربية، ومجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، ومجلس كنائس الشرق الأوسط. فقد حاولنا أن نتمم معًا مشيئة الله علينا، وأن نكون جميعًا مؤمنين صادقين وساجدين أمامه "بالروح والحقّ".

نشكر الله الذي فرّحنا بنعمة تقديس الراهبتين، الراهبة الكرملية مريم بواردي، ومؤسسة راهبات الوردية، ماري ألفونسين غطاس. كان هذا الحدث قمة الفترة التي خدمت فيها. وسترافقنا شفاعتهما ومثال فضائلهما في سيرنا نحو الملكوت.

إلى كهنتي الأعزاء والرهبان والراهبات والمؤمنين، أنا الآن أودّعكم وقد بلغت سن الاستقالة. ولكن صلاتي سوف تبقى مع صلواتكم، وأنتم مستمرون في حمل "ثقل النهار وحرّه"، في كل أنحاء أبرشيتنا. وصيتي للجميع، هي وصية السيد المسيح لرسله عشية آلامه وموته، أن يحبّ بعضكم بعضًا وأن تحبوا جميع الناس. وفي سنة الرحمة هذه نتذكر أيضًا كلمته: "طوبى للرحماء فإنهم يرحمون"، فنرحم نحن أيضًا بعضنا بعضًا.

شاء قداسة البابا فرنسيس أن يرسل إلينا ممثلاً له في بطريركيتنا لمدة محدودة، في شخص المدبر الرسولي، الذي هو الأب بييرباتيستا بيتسابالا، حارس الأراضي المقدسة السابق. ومن مهامه المتعددة الإعداد لتعيين البطريرك الجديد. والأب ببيرباتيستا عالم بأوجاع أرضنا وأبرشياتنا وحاجاتها من خلال خدمته مدة اثني عشرة سنة في فترة رئاسته للرهبان والمؤسسات الفرنسسكانية في حراسة الأراضي المقدسة.

إننا نعيش ظروفًا تثير فينا تساؤلات كثيرة، نتوقّف عندها، ونفكر فيها بحكمة ورويّة. ونبقى متحدين وناظرين إلى الأمام بتفاؤل ورجاء. كان السيد المسيح يقول لتلاميذه من حين إلى آخر: "تعالوا على حدة"، فيجددهم ويقويهم بتعليمه. واليوم يدعونا السيد المسيح نحن أيضًا ويقول لنا: تعالوا على حدة، بعيدًا عن ضوضاء الهموم والآراء، لنصلي ونفكر أمامه تعالى ونراجع أنفسنا ونشجّع بعضنا بعضًا ونُعد لنا مستقبل راسخًا مؤسسًا على صخر الإيمان والمحبّة.

تعلمون أن ليست هذه هي المرّة الأولى الي يقول الله لأبرشيتنا: تعالوا على حدة، للصلاة والمراجعة. ففي عام 1947، إثر وفاة البطريرك لويس برلسينا، ابتليت أرضنا المقدسة بحرب جديدة نشبت فيها. وقد أرسل الله لنا إذاك مدبرًا رسوليًا ليفكر معنا ويخدم معنا، هو القاصد الرسولي غوستاف تستا (Gustave Testa)، حتى تعيين البطريرك ألبرتو غوري عام 1949. واليوم أيضًا تتكرر دعوة الله نفسها: تعالوا على حدة. وكلنا يعلم أن المحنة التي بدأت عام 1948 ما زالت هي هي، بل تفاقم شرها وخطرها وتفاعلاتها حتى يومنا هذا. ونحن اليوم نحمل مسؤولية شعوبنا في طلبها للعدل والسلم.

وفي تلك الأثناء، ثبتنا الله بنعمته وأرسل لنا بطاركة من بني صفوفنا. إنما هو يدعونا اليوم إلى التوقف والصلاة حتى نتبين الطريق التي ما زالت محفوفة بالشدائد الكثيرة، والتي أصبحت تستدعي صلاة وهمّة وجدّية من قبلنا جميعًا، فيُبدّل كل واحد منا ما يلزم أن يُبدّل من نفسه، وفي حياته وخدمته، ليبقى أمينًا للأبرشية، ولنبقى معًا قادرين على حمل مسؤولياتنا تجاه كنيستنا وبطريركيتنا وأرضنا. نشكر الله لما أراده لنا. نستقبل نعمته، وبمحبّته نرحّب بمن أرسل إلينا.

مثل الوضع العام في بلدنا ومنطقتنا اليوم، كذلك كنائسنا. نحن أيضًا نحتاج إلى فترة توقّف وتفكير ووحدة ومراجعة شخصية وجماعية. هذا زمن نعمة منحنا إياه الله، نتقبّله منه تعالى ومن أمنا الكنيسة الكاثوليكية الجامعة. نستقبل نعمة الله، في شخص المدبر الرسولي الجديد، الذي أتى ليصلّي معنا ويرافقنا في تفكيرنا ورؤانا للمستقبل في أرضنا المقدسة وأبرشيتنا البطريركية. بالتعاون والمحبة سنحقق المعجزات. ما بدا لنا مفاجأة أو خطوة إلى الوراء إنما هو في نظر الله نعمة وخطوة إلى الأمام واستمرار لمرحلة الخدمة الجديدة التي بدأنا بها. "وليس أمر غير ممكن لدى الله"، على أن نكون نحن مكملين بعملنا عمل الله سبحانه وتعالى، بحسب قول يسوع المسيح: "إنّ أبي ما يزال يعمل، وأنا أعمل أيضًا" (يوحنا 5: 17). ونحن مع الله نعمل. فالخطوة إلى الأمام متوقّفة على ربط خدمتنا وتخطيطنا ورؤانا المستقبلية بعمل الله نفسه، وهذا يقتضي منا الكثير الكثير.

قد يسأل البعض ما مدّة المدبّر الرسوليّ بيننا؟ إقامته بيننا وصلاته معنا متوقفة على تعاوننا معه وعلى محبتنا بعضنا لبعض. نحن نصنع ما نصبو إليه إن بذلنا الجهد الذي يجب أن نبذله، وإن أحببنا كما يريد الله لنا أن نحبّ. وبنعمته تعالى، نحن قادرون على المحبة، وقادرون على أن نسير بحسب مشيئته تعالى ومشيئة الكنيسة الجامعة، أي أن نخطو دائمًا إلى الأمام. فالأمر متوقف على محبتنا وأمانتنا لله ولكهنوتنا. أرجو أن تلتزموا عيش المحبة والخدمة على مثال المسيح الذي "أحبنا وبذل نفسه من أجلنا". ومع المسيح الفقير نلتزم أيضًا روح الفقر الإنجيلي بكل معانيه ومتطلباته. كذلك نصبح شهودًا لقدرة الله التي "تتجلّى في الضعف" والتواضع.

أنا مغادر وسأبقى قريبًا منكم بصلاتي. أترككم بين يدي أمنا مريم البتول، فهي الأم الحنون التي رافقت يسوع ابنها والرسل من بعده، وهي التي ترافق الكنيسة الجامعة اليوم، وترافقنا نحن في أرضها وفي جميع رعايانا. أترككم بني يدي ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، وأسأله أن يزيدكم نعمة على نعمة، ويثبتكم في محبّته. كونوا مطمئنين وثابتين في سلام المسيح. وصلوا من أجلي. وليبارككم الله القادر على كلّ شيء، الآب والابن والروح القدس. آمين.