French English اتصلوا بنا سجل الزوار

الدعوة الرهبانية

رهبنة الوردية المقدسة

HOME

 

النذور الرهبانية نبعٌ لفرح القلب

 
 


من الواضح أن يسوع يريد لتلاميذه أن يكونوا فرحين وسعداء, يشهدون أن البشارة بالخلاص طريق حرية وتحرر، فيكونوا علامات حيّة يُظهرون بأنه يمكننا العيش منذ الآن وعلى هذه الأرض مئة الضعف التي وعد بها المعلم الذين يتبعون دعوته، وفرح أبناء الله، مثل ذلك التاجر الذي وجد اللؤلؤة الثمينة.

لكن للوصول إلى هذا الفرح يجب أن نمر بالبرية لكي يتمكن الله أن يتكلم إلى قلبي ويغويني من جديد (هو 2:16), فلكي نقدّر تماماً قيمة النور يجب المرور بالليل المظلم، ولكي نختبر الملء ونكون ((أباً لكثيرين)) مثل إبراهيم يجب أن نمر عبر التجرد من الذات، ولكي نحمل ثماراً كثيرة يجب أن نقع في الأرض الطيبة ونموت، ولكي نعرف فرح الولادة يجب أن نكون قد عرفنا آلام المخاض, كما يجب أن نمر عبر سكرات الموت لكي نتذوق فرح القيامة.

ليس ثمة من فرح دائم إلا إذا كان ثمراً للألم وثمن حب على استعداد أن يُعطي كل شيء وأن ينكر حياته, لأن فرح الحياة المكرسة لا يأتي من الرضا الذي قد نشعر به عند خدمتنا للفقراء أو تعليم الأطفال أو العناية بالمرضى. كل هذه الأنواع من الفرح فيها الكثير من السمو بالتأكيد, لكنها ليست أساساً كافياً للتضحية بكل شيء. فالتجرد الجذري الذي تتطلبه الحياة المكرسة لا يمكنه أن يكون الثمن الذي نحن على استعداد لدفعه بفرح إلا عندما يكون يسوع قد أغوانا. فالمسألة هنا التجرد من أجل الارتباط.

لا يمكنني أن أجد الفرح في التخلي عمّا أملكه (الفقر)، وعما أقرر أن أفعله (الطاعة)، وعما أرغب فيه (العفة)، إلا إذا كان شخص يسوع قد أصبح هدفي الوحيد، ومَثلي الأعلى الوحيد ورغبتي الوحيدة: ((من أجله خسرت كل شيء وعددتُ كل شيء نفاية لأربح المسيح...)) (فل 3:8) وأيضاً ((أتمثل به في موته)) (فل 3:10) وأعرفه وأعرف قوة قيامته.

منذ أن التقيت بيسوع، وعرفته، وأحببته، ليس لدي سوى رغبة واحدة، هي أن أعيش معه ومثله ومن أجله، وأن أجعل الآخرين يعرفونه، بأنه الطريق والحق والحياة (يو 14:6). لقد أراد يسوع أن يعيش في الفقر والطاعة والعفة. وفي السير خلفه وعلى مثاله, وبقوة روحه القدوس الساكن فيّ، أسعى بتواضع في حياتي المكرسة إلى الالتزام باتباعه، هو المسيح الفقير، والمطيع، والمحب العفيف.

الفقر كنز فرح
بدلاً من أن نفهم الفقر على أنه ألمٌ من عيش تجرد صعب, وعدم إمكانية إنفاق المال بحرية وشراء ما يبدو لنا ضرورياً, إلى جانب لزوم تقديم كشف حساب عما ننفقه, ألا يمكننا أن نفهم الفقر بطريقة أخرى وأن نراه على أنه فرح العيش بأيد مفتوحة؟ أيد تتلقى وأيد تعطي ما تلقيناه؟ فما هو أفضل من إنفاق المال هو بذل الذات وألا يكون لدينا ما نملكه سوى المسيح فهو كنزنا الوحيد.

في أعماق الرسل (20:35), يتوجه القديس بولس إلى الشيوخ في أفسس بالكلام الذي قاله يسوع: ((السعادة في العطاء أعظم منها في الأخذ)). ونعرف أيضاً ما قاله طاغور: ((كنت أحلم بأن الحياة بأكملها هي الفرح, وعندما استيقظت وجدت أن الحياة هي الخدمة, فابتدأت أخدم واكتشفت أن الفرح هو في العطاء)).

فرح الإفراغ من الذات لنتمكن من أن نستقبل كل يوم عطية الله, فرح بذل الذات في سبيل الفقراء والعمل معهم ومن أجلهم, لكي نتمكن من بناء عالم أكثر عدالة, فرح أن نشهد في قلب هذا العالم الاستهلاكي بأن ((الله وحده يكفي)). في هذا العالم المادي الذي يبحث بجشع عن التملك والرفاهية – وهذا هو السبب الرئيس لكثير من النزاعات المسلحة والبحث عن السيطرة على الآخرين – فإن حياة الفقر هي تحدّ للصنمية ولديكتاتورية المال, وهي التي يحتاج إليها عالمنا لكي لا يموت مختنقاً.

إن المكرسين, في خيارهم الأساسي للفقراء وتقاسم حياتهم مع الأقل حظاً, هم مصدر إلهام لنا ((بابتهاجهم وسلامة قلوبهم)) (أع 2:42), يدعموننا لأن نقوم فرحين ببناء عالم جديد يسكن الله فيه مع الناس ويمسح كل دمعة من عيونهم, ويعطي لكل منهم من ماء نبع الحياة مجاناً, ويجعل كل شيء جديداً (رؤ21: 3-6).

الطاعة طريق إلى الحرية
هل يمكن أن نجد الفرح في الوقت الذي يجب فيه التضحية بحريتنا في فعل طاعة لله؟ الحرية قيمة أساسية للإنسان. فهو قد يُعطي حياته في سبيل المحافظة عليها, حتى ولو أصبح شهيداً.

يعتقد العالم في أغلب الأحيان أنه لا توجد صلة أساسية بين الحرية والحقيقة, بين الحرية والقيم الأخلاقية. إنه لا يفهم بأنه لا يمكن وجود حرية حقيقية دون وجود احترام عميق لحرية الآخر وقيمه الأخلاقية. وفي الواقع, لا يمكننا أن نستمتع بالحرية الحقيقية إلا إذا كانت لدينا الشجاعة للالتزام بمثل أعلى.

هل يوجد مثل أعلى أكثر رفعة أو مرشد أكثر سمواً بالنسبة للإنسان من يسوع وإنجيله؟ لا يمكن لأحد ان يكون حراً وسعيداً عندما يرفض أن يعيش وفق مشيئة الله. لا يمكن للإنسان أن يعيش في فرح حقيقي, إلا إذا عاش بأذنين مفتوحتين, وكان على أتم الاستعداد للعمل بمشيئة الله الذي يهدينا إلى طريق الحرية الحقيقية, ويطلب منّا الانتباه لحضوره الذي يتجلى في رجال ونساء زمننا الحاضر الذين يطلبون منا الانتباه لهم ولاحتياجاتهم. قد تبدو الطاعة لنا كمسكن أو مخدر يعفي الإنسان من مسؤولياته ويجعله يعيش في عالم وكأنه بلا هموم. لكنها في الواقع, تشكّل ذلك الانتباه لمشيئة الله التي لا يوجد بدونها أية حرية حقيقية أو فرح حقيقي.

((من أحب شريعة الرب لا يتعثر)) يقول المزمور 118, وهو الأطول في الكتاب المقدس الذي يعبر فيه إسرائيل عن فرحه بأن يكون لديه شريعة تحميه ومرشد يهديه إلى طريق الحرية الحقيقية, بعد أن عاش لأجيال عديدة في العبودية. يرنم الشعب بفرح لأنه حصل على الشريعة والوصايا: ((شريعتك هي نعيمي..., وصيتك ما أرحبها..., كم أحب شريعتك, فهي تأملي النهار كله..., إنها سرور قلبي وقد أملت قلبي لأعمل بفرائضك..., أحببت وصاياك أكثر من الذهب... كلمتك مصباح لخطاي...))

(مز 118،27،96،97،105،111،112،127).

العفة فرح الحب
يجد الإنسان فرحه في الحياة في قدرته على أن يحب وأن يكون محبوباً. والعفة ليست الحرمان من الحب, بل بالحري فنٌ في الحب.
إننا نعيش في عالم يخشى أن يصبح البحث فيه عن المتعة والجنس المعبود والهدف الأول في الحياة. أمام هذا الواقع المحزن، فإن الشخص المكرس ليس ذاك الذي يقسي قلبه خوفاً من الحب ويحرم نفسه من متعة الحب، بل على العكس، العفة هي فن الحب دون حدود ودون تمييز بين الناس، مع الأولوية لمنكسري القلوب.

فالشخص المكرس يسعى من خلال العفة لأن يكون شاهداً فرحاً لمحبة الله لكل مخلوق.

لقد ظهرت محبة الله هذه في يسوع المسيح. يسوع لم يتزوج، وذلك ليس بالتأكيد لأنه كان يخاف من المرأة أو أنه كان يهرب من مسؤولية تربية الأولاد. لم يتزوج يسوع لكيلا يضع حدوداً لقدرته على الحب ولكي يعيش أبوة شاملة وأخوة بلا حدود. أراد يسوع في حياة التبتل التي عاشها أن يظهر لنا الفرح غير المحدود في أن يكون رفيقاً للجميع وأباً ((لكثيرين)). لذلك فإن عيش العفة في اتباعنا ليسوع هو فرح العيش بقلب مفتوح.

وبدلاً من المعاناه من عدم وجود رفيق لحياتنا، نصبح رفاقاً لجميع الناس, وبدلاً من عيش الحرمان من أن نكون أباً أو أماً, نصبح شهوداً فرحين لواقع وجود إمكانية، مع يسوع وعلى مثاله، أن نحب الله والقريب كذواتنا وبدون أي تمييز. إن العفة هي أن نكون كلياً ((رجل أو امرأة من أجل الآخرين)).

((نعم يا أبتِ، أحمدك لأنك كشفت عن هذا الفرح العميق للبسطاء والصغار)) (لو 10:21), فهو ليس ثمرة نجاح بشري, بل هبه يمنحها الله للذين يعيشون بأيدٍ مفتوحة (في الفقر), وبأذنين مفتوحتين (في الطاعة) وبقلب مفتوح (في العفة).

- أيد مفتوحة, بفرح العطاء لكل شيء واستقبال كل شيء, وألا يكون لنا كنز سوى الله وحده, فلا يستطيع السارق أن يسرقه ولا العث أن يفسده (متى6: 19-21). فرح أن يكون كنزنا في الله.

- أذنان مفتوحتان, في موقف يرتكز على الله والانتباه لمشيئته، لأنه لا يمكن الحصول على فرح عميق ودائم إلا في إتمام مشيئته. الطاعة هي الفرح ((بأن نجد الله في كل شيء)) وأن نكون منبهين لحضوره، خاصة في شخص المحتاجين لمن يستقبلهم ويُنصت إليهم.

- قلب مفتوح، لحب بلا حدود على مثال الله الذي يشرق شمسه على الأخيار والأشرار ولا يحرم أحداً من حبّه.

هذا هو الطريق الذي يقودنا إلى الفرح: ((افرحوا بقدر ما تشاركون المسيح في آلامه، حتى إذا تجلى في مجده كنتم في فرح وابتهاج)) (1 بط 4:13)
، ((قد امتلأتُ بالعزاء, وفاض قلبي فرحاً في شدائدنا كلها)) (2 كور 7:4).

                                                                                   
الأب هانس بوتمان

 

 
 

الانتقال لصفحة الحياة المكرسة >>>>>