اتصلوا بنا

الرئيسية

 

 
 
 

القربان الاقدس وكيف نعيشه

 

 

 


في إنجيل أحد عيد القربان (مرقس 14: 12-16، 22-26) يتكلم مرقس عن تأسيس سر القربان الاقدس في اطار العشاء الفصحي الذي يُستذكر فيه التحرر من العبودية وإقامة العهد مع الله. اما افعال يسوع وكلامه في العشاء الاخير يدل على المعنى العميق لحياته ولموته: حين اعطى ذاته لله وللبشر من خلال سر القربان. ودعا التلاميذ ان يفعلوا ما فعله يسوع كعلامة عن حضوره وسط احبائه، وان يدخلوا معه في مسيرة بذل الذات حتى الآلام والموت. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

اولا: وقائع النص الانجيلي( مرقس 14: 12-16، 22-26)

12وفي أَوَّلِ يَومٍ مِن الفَطير، وفيه يُذبَحُ حَمَلُ الفِصْح، قال له تَلاميذُه: "إِلى أَينَ تُريدُ أَن نَمضِيَ فنُعِدَّ لَكَ لِتَأكُلَ الفِصْح؟": تشير عبارة "أَوَّلِ يَومٍ مِن الفَطير" الى 14 نيسان وهو المعروف بيوم الجمعة العظيمة الذي تُذبح فيه الحملان ويستعمل فيه خبز فطير أي بلا خمير. والخمير علامة الفساد والنجاسة. وجاءت العادة في اورشليم أن تُذبح الحملان في الهيكل بعد ظهر الرابع عشر من نيسان، في اليوم الاخير قبل ليلة البدر. وكانت الحملان تؤكل في المساء في داخل المدينة، في الاسرة او جماعات مؤلفة من عشرة اشخاص الى عشرين (خروج 12: 1-14). ومنذ مساء 14 عشر من نيسان (يوم التهيئة) كان لا بد من إبعاد كل خمير عن البيوت وكان أكل الخمير محرّما مدة سبعة ايام (خروج 2: 15-20). وعليه كان العيد يدوم ثمانية أيام، بما فيها 14 نيسان، يوم التهيئة. وكان إسرائيل باحتفاله بعيد الفصح أي بالتحرير القديم من مصر، يتذكر ويؤوّن نعم الله راجيا الخلاص المسيحاني. كان هذا العيد هو احد الاعياد الكبرى الثلاثة الذي يذهب الحجاج فيه الى هيكل اورشليم كما في عيد العنصرة وعيد الاكواخ. باختصار العشاء تمّ مساء الخميس حسب التقويم اليهودي اذ يقع 14 نيسان عند غروب اليوم الذي قبله. ان يسوع وهو عالم انه لا يمكنه ان يمارس الفصح في الوقت المعين، قد عمله مسبقا بيوم واحد " ذُبِحَ حَمَلُ فِصْحِنا، وهو المسيح" (1 قورنتس 6: 7) في الساعة عينها التي فيها كانت حملان الفصح تذبح في الهيكل. اما عبارة "عيد الفِصْح" و"عيد الفطير" فتشير الى ان العيدين كانا مختلفين في الاصل. عيد الفصح لدى اليهود هو في الاصل عيد الرُّعاة الذين يذبحون حملا ويقدمونه الى الله طالبين البركة من اجل القطيع. واما عيد الفطير فهو عيد المزارعين الذين يقدّمون البواكير طلبا للبركة من اجل الغلال. ولكن العيدان صارا عيداً واحداً (التكوين 16: 1-8). اما سؤال تَلاميذُ الى يسوع: (إِلى أَينَ تُريدُ أَن نَمضِيَ فنُعِدَّ لَكَ لِتَأكُلَ الفِصْح؟) فتشير الى مخاطبة التلاميذ ليسوع كما يخاطبون رئيس الاسرة او الجماعة التي تحتفل بعشاء الفصح يُسأل عمّا يفعل فيجيب ويقدّم التعليم. إذ كان على الحجاج ان يجدوا غرفة في داخل مدينة اورشليم. ويفترض مرقس الانجيلي ان عشاء يسوع الاخير كان عشاء الفصح اذ تمّ في أجواء عيد يؤوًّن التحرير والعهد الموسوي ويبعث الرجاء المسيحاني (يوحنا 14: 24-25).

13 "فأَرسَلَ اثنَينِ مِن تَلاميذِه وقالَ لَهما: اِذهَبا إِلى المدينة، فَيَلقاكُما رَجُلٌ يَحمِلُ جَرَّةَ ماءٍ فاتبَعاه": تشير عبارة "رَجُلٌ يَحمِلُ جَرَّةَ ماءٍ" الى أمر غير مألوف، لأنَّ النساء هن اللواتي يذهبن الى العين ليستقين ماء كما هو الحال مع المرأة السامرية (يوحنا 4:7). اما هنا فالمستقي هو رجل ، واضح ان الرجل كان خادماً، يقوده اثنين من تلاميذ يسوع الى صاحب المنزل الذي يبدو ان يسوع كان قد رتَّب معه أمر استعمال الغرفة، لأن يسوع لم يرد ان يعرف أحد أين يأكل الفصح خوفا من اليهود. اما عبارة "اثنَينِ مِن تَلاميذِه" فتشير الى بطرس ويوحنا كما هو واضح في انجيل لوقا "أَرسَلَ بُطُرسَ ويوحَنَّا وقالَ لَهما: اِذهبَا فأَعِدَّا لَنا الفِصْحَ لِنَأكُلَه" (لوقا 22: 8).

14 "وحَيثُما دَخَل فَقولا لِرَبِّ البَيت: يَقولُ المُعَلِّم: أَينَ غُرفَتي الَّتي آكُلُ فيها الفِصْحَ مَعَ تَلاميذي؟": تشير عبارة "غُرفَتي" الى الغرفة التي احتاج اليها؛ بمعنى ان يسوع قام بكل الترتيبات مع رب البيت، فصارت الغرفة غرفته من أجل عشاء الفصح.

15 "فيُريكُما عُلِّيَّةً كبيرَةً مَفْروشَةً مُهَيَّأَةً، فأَعِدَّاهُ لَنا هُناك. 16فذهَبَ التِّلميذانِ وأَتَيا المَدينة، فوجَدا كما قالَ لَهما وأَعدَّا الفِصْح": تشير عبارة "عُلِّيَّةً كبيرَةً مَفْروشَةً مُهَيَّأَةً" الى قاعة في الطابق الاعلى مفروشة بالأثاث الازم مثل منضدة وأريكة للاستراحة في الجلوس وطشت ماء ومنشفة (يوحنا 13: 4)؛ ويُشار اليها اليوم في كنيسة علية صهيون في القدس. وأما عبارة "فأَعِدَّاهُ لَنا هُناك" فتشير الى إعداد العشاء من الخبز الفطير والنبيذ والاعشاب المُرّة. ومن المحتمل انه كان هناك حمل، لكنه لم يرد ذكره، لانّ حمل الله الحقيقي كان حاضراً وهو المسيح.

22 "وبَينما هم يَأكُلون، أَخذَ خُبزاً وبارَكَ، ثُمَّ كَسَرَه وناوَلَهم وقال: خُذوا، هذا هُوَ جَسَدي": تشير عبارة "بَينما هم يَأكُلون" الى ان يسوع قد أدرك معنى موته، إذ شعر بأنه يبذل دمه لمغفرة خطايا البشر، وعلى التلاميذ ان يعملوا ذلك لذكره كما ورد في انجيل لوقا (لوقا 22: 19) ورسائل بولس (1 قورنتس 11: 24). وليس المطلوب هنا مجرد ذكر الحدث وتكرار العشاء السرِّي، بل تأويين ذبيحته على الصليب، واستباقاً للوليمة السماوية. أما عبارة "خُذوا، هذا هُوَ جَسَدي" هو ليس مجرد تشبيه بين الخبز والجسد أي كما يُكسر الخبز كذلك يُكسر جسدي؛ بل هو مطابقة بين الخبز والجسد. هذا هو جسدي أي بذل يسوع جسده وذاته.

23 "ثُمَّ أخَذَ كأَساً وشَكَرَ وناوَلَهم، فشَرِبوا مِنها كُلُّهم" 24وقالَ لَهم: هذا هو دَمي دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجلِ جَماعَةِ النَّاس": تشير عبارة "دَمُ العَهد" الى قول موسى "هُوَذا دَمُ العَهدِ الَّذي قَطَعَه الرَّبُّ معَكم". يوحّد موسى بصفته الوسيط بين الرب والشعب بينهما رمزيا برش دم ذبيحة واحدة على المذبح الذي يمثل الرب، ثم على الشعب (خروج 24: 8). فالميثاق يُبرم بالدم (احبار 1:5) كما سيُبرم العهد الجديد بدم المسيح الذي بذل دمه أي حياته "دَخَلَ يسوع القُدْسَ مَرَّةً واحِدَة، لا بِدَمِ التُّيوسِ والعُجول، بل بِدَمِه، فحَصَلَ على فِداءٍ أَبَدِيّ" (عبرانيين 9: 12-26). اما عبارة "يُراقُ مِن أَجلِ جَماعَةِ النَّاس" فتشير إلى ان يسوع ببذل دمه على الصليب، حقّق العهد الذي قُطع قديما في جبل سيناء بدم الضحايا "هُوَذا دَمُ العَهدِ الَّذي قَطَعَه الرَّبُّ معَكم" (خروج 24: 8)، ويُخبر ضمنا بتحقيق العهد الجديد الذي تبنَّا به الانبياء "ها إِنَّها تَأتي أَيَّام، يقولُ الرَّبّ، أَقطعُ فيها مع بَيتِ إِسْرائيلَ (وبَيتِ يَهوذا) عَهداً جَديداً" (ارميا 31: 31). ان موت يسوع فتح "العهد الجديد" أي عهد النعمة التي تنبأ عنه ارميا. وكشف ارميا شروط العهد الجديد أي الغفران الالهي وسكنى الله في الناس. اما عبارة "يُراقُ مِن أَجلِ جَماعَةِ النَّاس" فتشير الى ذبيحة يسوع وفديته من اجل الناس تحقيقا لنبوءة اشعيا التي تتحدث عن عمل العبد المتألم ليفدي الناس من الشر "هو حَمَلَ خَطايا الكثيرين وشَفَعَ في مَعاصيهم" (اشعيا 53: 12). والمراد بالفدية الانقاذ عن طريق دفع الثمن ويجب ان يُفهم في ضوء اقوال المسيح التي تعني ان نفس الانسان قد تخسر. لقد جاء يسوع ليضع حياته كثمن الفدية حتى يستردَّ الخاسرون حياتهم تلك الحياة من جديد. وكلمة "كثيرين" قد تكون اشارة الى اشعيا "يُبَرِّرُ عَبْديَ البارُّ الكَثيرين" (اشعيا 52: 11)، والمقصود منها تحديد مجال عمل يسوع التكفيري كأنه عن كثيرين فقط وليس الكل. ان كثيرين سيحصلون على بركة الذبيحة الواحدة لذلك الواحد "ويَفدِيَ بِنَفْسِه جَماعةَ النَّاس" (مرقس 10: 45). العهد الجديد سيختمه هو بدم نفسه. "يُراقُ مِن أَجلِ جَماعَةِ النَّاس أي يسفك من اجل كثيرين. (مرقس 10:45) فقد ذكر يسوع ان موته ذبيحة بديلة عن البشر. كان موت يسوع على الصليب ختماً لاتفاق جديد بين الله والبشر. كان اتفاق العهد القديم يتضمن غفران الخطايا بدم ذبيحة حيوانية ( خروج 24: 6-8) ولكن عوضا عن تقديم حمل بلا عيب على المذبح، جاء يسوع كحمل الله، ليقدّم نفسه ذبيحة لغفران الخطيئة مرة واحدة والى الابد. فقد كان يسوع الذبيحة الإلهية الكاملة عن الخطايا، وقد ختم بدمه الاتفاق الجديد بين الله وبيننا، ويُسمى العهد الجديد، والآن يستطيع كل منا ان يأتي الى الله في كامل الثقة بواسطة يسوع يخلصنا من خطايانا.

25 "الحَقَّ أَقولُ لَكم: لن أَشرَبَ بَعدَ الآنِ مِن عَصيرِ الكَرمَة، حتى ذلك اليَومِ الَّذي فيه أَشرَبُه جديداً في مَلَكوتِ الله": تشير عبارة "ذلك اليَومِ" الى اليوم الاخير. اما عبارة "أَشرَبُه جديداً" فتشير الى ملكوت الله بصورة الوليمة المسيحانية (اشعيا 25: 6 ). لقد تطلع يسوع الى ما بعد موته، الى حياته الممجدة، والى الشركة الكاملة في ملكوته. فمائدة الرب لها بُعدان: بُعد ماضي يشير الى الصليب وبُعد مستقبلي يُشير نحو التكامل في الملكوت السماوي. وقد قام يسوع بأمرين على مائدة الفصح هما: تمرير الخبز وشرب الكأس وأعطاهما معنى جديداً بأنهما يشيران الى جسده ودمه. وقد استخدم الخبز والخمر لإيضاح أهمية ما كان يوشك ان يفعله على الصليب (1 قورنتس 11: 23-29).

26 "ثُمَّ سَبَّحوا وخَرَجوا إِلى جَبَلِ الزَّيتون": تشير عبارة "سَبَّحوا" الى المزامير 115-118 التي كان اليهود ينشدونها كصلاة شكر في نهاية عشاء الفصح. وكانت هذه المزامير تبدأ بكلمة "هللويا" أي سبّحوا الرب!. لقد أكل الرب يسوع وتلاميذه وليمة الفصح، ورنَّموا بعض المزامير وقرأوا من الكتاب المقدس، وصلوا. وباختصار يسجل مرقس الإنجيلي كيف أن عشاء الرب، الذي سُمِّي: "إفخارستيا"، والذي ما زال يُمارس في الاجتماعات المسيحية حتى اليوم.

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي

بعد دراسة وقائع النص الانجيلي (مرقس 14: 12-16، 22-26) يمكن ان نشدد على نقطتين: القربان الاقدس وكيف نعيشه.

أ) مفهوم القربان الاقدس

القربان الاقدس هو سر يَحضر فيه المسيح حقيقة بجسده ودمه تحت شكلي الخبز والخمر ليقرِّب نفسَه للآب السماوي بصورة غير دموية ، وليهبَ المؤمنين نفسَه قوتاً لنفوسهم . فسر القربان ليس كباقي الاسرار قوة يمنحها المسيح لتولي النعمة، بل القربان الاقدس هو المسيح نفسه ، ينبوع النعم كما يقول القديس توما الاكويني (3/ 65: 3). القربان في اللغة العربية الفصحى مشتق من فعل قَرُبَ تعني دنا منه واليه. اما في الالفاظ العامية فكلمة القربان مشتقة من السريانية . ومن هنا جاء فعل قرّب ومعناه اعطاه القربان المقدس وتقرّب المؤمن أي تناول القربان.

وللقربان الاقدس تسميات أخرى مثل الافخارستيا، وكسر الخبز، والذبيحة الالهية، والشركة، والقداس. فلأفخارستيا لفظة يونانية εὐχαριστέω تذكر بالبركات التي تشيد بأعمال الله: الخلق والفداء والتقديس (لوقا 22:19، 1 قورنتس 11:24، متى 26:26). أما "كسر الخبز" فهي عبارة استعملتها الجماعة المسيحية الاولى للدلالة على اجتماعاتهم الافخارستيا "كانوا يُواظِبونَ على تَعليمِ الرُّسُل والمُشاركة وكَسْرِ الخُبزِ والصَّلَوات". (اعمال الرسل 2: 42)؛ وهم يعبّرون بذلك عن ان جميع الذين يتناولون من هذا الخبز الواحد المكسور أي المسيح، يدخلون في الشركة معه "أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟" (1 قورنتس 10: 16). واما عبارة "الذبيحة الالهية" فتشير الى ان الافخارستيا تجسّد في الحاضر ذبيحة المسيح المخلص "لْنَقَرِّبْ للهِ عن يَدِه ذَبيحَةَ الحَمْدِ في كُلِّ حين" (عبرانيين 13: 15). ويدعى سر القربان ايضا "شركة"، لأننا بهذا السر نتحد بالمسيح الذي يجعلنا شركاء في جسده وفي دمه لنكون جسداً واحدا "فلمَّا كانَ هُناكَ خُبزٌ واحِد، فنَحنُ على كَثرَتِنا جَسَدٌ واحِد، لأَنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنا في هذا الخُبْزِ الواحِد" ( 1 قورنتس 10: 17). وأما عبارة "القداس" وفي اللغة اللاتينية Missa فهي تشير الى إرسال المؤمنين Missio في نهاية القداس وذلك ليحققوا إرادته تعالى في حياتهم اليومية.

ومن أهم رموز القربان المقدس في الكتاب المقدس هي: المن في البرية، (يوحنا 6: 46) ذبائح العهد القديم: ذبيحة المحرقة للتكفير عن الخطيئة (خروج 29: 38)، ذبيحة السلامة للشكر والتكريس للرب (تثنية 12: 18)، ذبيحة الخطية للتكفير عن الخطايا (الاحبار 4،5) ذبيحة الإثم للخطايا الشخصية (الاحبار 5:15)، وتقدمة الدقيق (احبار 2: 4) وأشهرها ذبيحة حمل الفصـــــــح (خروج 12: 5) التي ترمز إلى المسيح له المجد، فصحنا الحقيقي الذي ذُبح لأجلنا على عود الصليب. وعليه فإن المسيحيين الآن هم في غنى عن هذه الذبائح، لانَّ المسيح رُفع عن الصليب ذبيحة طاهرة كاملة لأجلهم "تَأَلَّمَ يسوعُ أَيضًا في خارِجِ الباب لِيُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِذاتِ دَمِه" (عبرانيين 13: 11). فهم يقدمون ذبيحة الالهية ذبيحة الافخارسيتا التي وعد بها يسوع وأسسها.

ب. الوعد بالقربان الاقدس (يوحنا 6: 22-71):

بعد معجزتي تكثير الخبز والمشي على البحر، اللتين مهَّد بهما يسوع للوعد بالافخارستيا ، قال يسوع لليهود: " لا تَعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَفْنى بلِ اعمَلوا لِلطَّعامِ الَّذي يَبْقى فَيَصيرُ حَياةً أَبَدِيَّة ذاكَ الَّذي يُعطيكموهُ ابنُ الإِنسان". (يوحنا 6: 27) . تكلم يسوع عن الخبز الحقيقي الذي ينزل من السماء ويعطي العالم الحياة الابدية ثم دّل على نفسه بانه هو هذا الخبز السماوي الذي يعطي الحياة، وطلب الايمان بذلك (يوحنا 6: 35-51). واخيراً أعلن ان الخبز الحقيقي النازل من السماء هو جسده، وان نيل الحياة الابدية مرتبط بأكل جسده وشرب دمه " الخُبزُ الَّذي سأُعْطيه أَنا هو جَسَدي أَبذِلُه لِيَحيا العالَم". (يوحنا 6: 51-58). وحينئذ خاصَمَ اليَهودُ بَعضُهم بَعضاً وقالوا: (( كَيفَ يَستَطيعُ هذا أَن يُعطِيَنا جسدَه لِنأكُلَه ؟)) فقالَ لَهم يسوع: (( الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِذا لم تَأكُلوا جَسدَ ابنِ الإِنسانِ وتَشرَبوا دَمَه فلَن تَكونَ فيكُمُ الحَياة. مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير. 55لأَنَّ جَسَدي طَعامٌ حَقّ وَدمي شَرابٌ حَقّ 56مَن أَكَلَ جَسدي وشَرِبَ دَمي ثَبَتَ فِيَّ وثَبَتُّ فيه.( يوحنا 6 : 52- 55). كلمات يسوع "مأكل حقيقي"، "مشرب حقيقي" . لا تفسر مجازيا انما حرفياً، لان عبارة "أكل جسده وشرب دمه "تعني في لغة الكتاب المقدس بالمعنى المجازي المطارد الدموية والفتك به (المزمور 2:26؛ اشعيا 20:9؛ ميخا 3:3). بالإضافة الى ذلك فهم السامعون معنى الكلام ولم يصححهم يسوع، كما كان يفعل عاده كلما التبس عليهم كلامه وأخطأوا فهمه (يوحنا 3:3). وقد شهد القديس اوغسطينوس على الايمان بالحضور الحقيقي بقوله "هذا الخبز الذي ترونه على المذبح، وقد قدسه كلام الله، هو جسد المسيح؛ وهذه الكأس، او بالحري ما في هذه الكأس، وقد قدسه كلام الله، هو دم المسيح" (العظة 227). وقال ايضا: "كان المسيح يحمل نفسه بيديه حين قال وهو يقدم لنا جسده: هذا هو جسدي" (في تفسيره للمزمور 33، العظة 10:1). وكيف يتحول الخبز والخمر ال جسد الرب ودمه؟ بكلمة الله الكلي القدرة. كما خلق كل شيء من العدم بكلمته ، فهو قادر ان يحوّل الخبز الخمر الى جسده ودمه. والكنيسة آمنت دوما بهذا التعليم.

ج. وضع القربان الاقدس او الافخارستيا

"في العشاء الاخير، ليلة أُسلم، ان يسوع المسيح وضع ذبيحة جسده ودمه ، لكي تستمر بها ذبيحة الصليب على مرّ الاجيال ، الى ان يجئ، ولكي يُودع الكنيسة ذكرى موته وقيامته"( تعليم الكنيسة الكاثوليكية 1323). واقوى برهان من الكتاب المقدس على الحضور الحقيقي هو في كلام وضع السر الذي أورده القديس مرقس (مرقس 14: 22-24) والقديس متى (متى 26: 26-28) والقديس لوقا (لوقا 22: 15-20) والقديس بولس الرسول ( 1 كور 11: 23-25)، مختلفين في بعض الالفاظ، متفقين في الموضوع.

ان الكلام الذي يقال على الخبز، هو: "هذا هو جسدي" هي الصورة المعروفة بالبطرسية التي نقلها الينا متى ومرقس، "؛ وبالصورة المعروفة بالبولسية التي نقلها الينا بولس ولوقا، هو: "هذا هو جسدي الذي يبذل لأجلكم" فيكون معنى الكلام : ان ما اقدمه لكم هو جسدي الذي يُبذل لأجلكم.

اما الكلام الذي يُقال على الكأس فهو معروف بالصورة بالبطرسية هو حسب مرقس: "هذا هو دمي العهد الجديد الذي يهراق عن كثيرين" ومتى الانيجلي يضيف "لمغفرة الخطايا"؛ ومعروف ايضا بالصورة البولسية حسب لوقا: "هذه هي الكأس العهد الجديد بدمي الذي يسفك من اجلكم" (ولا يوجد عند بولس: لمغفرة الخطايا). فيكون معنى الكلام: ان ما في هذه الكأس هو دمي الذي ختم به العهد الجديد كما ختم العهد القديم ايضا بالدم على ما ورد في سفر الخروج "هوذا دم العهد الذي عاهدكم به الرب"( الخروج 8:24) وهذا الدم يسفك لأجلكم.

وفي هذا العشاء الأخير وردت كلمة "عهد" بالعبرية הַבְּרִית وباليونانية διαθήκη في ظرف هو غاية في الأهمية. فبعد أن أخذ يسوع خبزاً وقسمه قائلاً "خُذوا، هذا هُوَ جَسَدي"، أخذ كأس خمر وباركها وناولها لتلاميذه. ويحفظ مرقس أوجز عبارة قالها يسوع وهذه المناسبة "هذا هو دَمي دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجلِ جَماعَةِ النَّاس" (مرقس 14: 24). ويضيف متى "لِغُفرانِ الخَطايا "إذ قال "فهذا هُوَ دَمي، دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجْلِ جَماعةِ النَّاس لِغُفرانِ الخَطايا" (متى 26: 28). ويذكر لوقا وبولس: "هذِه الكَأسُ هي العَهدُ الجَديدُ بِدمي" (لوقا 22: 20، 1 قورنتس 11: 25). وينفرد لوقا بقوله "الَّذي يُراقُ مِن أَجْلِكم". وتشكَل مناولة الكأس عملاً طقسياً. والكلمات التي نطق بها تضعه في علاقة مع الأمر التي يوشك يسوع أن يتمّمه: أي موته "الذي يقبله طوعاً لفداء كثيرين. يسوع يقدم نفسه كذبيحة ينبئ يسوع عن آلامه باستخدامه الكلمات والألفاظ عينها التي كانت تتميز بها ذبيحة عبد الله المـتألم التكفيرية: إنه يأتي "ليخدم"، "ويبذل حياته"، و"يموت "فداء" عن كثيرين (مرقس 10: 45، لوقا 22: 37،إشعيا 53: 10- 12).

فضلاً عن ذلك فإن الإطار الفصحي في عشاء الوداع " (متى 26: 2) يؤكد وجود علاقة مقصودة ومحدَّدة، بين موت المسيح وذبيحة الحمل الفصحي. ويُستشفّ من هذه الدلالة الأخيرة أن يسوع يعتبر نفسه عبد الرب المتألم (إشعيا 53: 10). وهكذا يصبح وسيط العهد الذي كانت تشير إليه رسالة التعزية "جَعَلتُكَ عَهداً لِلشَّعبِ ونوراً لِلأُمَم" (إشعيا 42: 6).

لكن دم العهد يذكرنا أيضاً بأن عهد سيناء قد ختم بالدم (خروج 24: 8): فتستبدل بذبائح الحيوانات ذبيحة جديدة يحقق دمها فعلياً اتحاداً نهائياً بين الله والبشر. هكذا يتم الوعد "بالعهد الجديد" الذي تنبأ به كل من إرميا وحزقيال بفضل دم يسوع سوف تتحول قلوب البشر، ويمنح لهم روح الله. فموت المسيح الذي هو في نفس الوقت ذبيحة فصح، وذبيحة عهد، وذبيحة تكفير، سوف يُؤدي إلى تحقيق رموز العهد القديم، التي كانت تشير إلى هذا الموت بصور مختلفة. وسيظل هذا العمل حاضراً بيننا بفضل فعل طقسي وهو القداس الالهي الذي أمر يسوع بأن "نصنعه لذكره ".

2 . كيف نعيش سر القربان الاقدس؟

"ان سر القربان الاقدس هو سر تقوى، وعلامة وحدة، ورباط ووليمة فصحية، فيها نتناول المسيح غذاء، وتمتلئ النفس بالنعمة، ونعطى عربون الآتي" (تعليم الكنيسة 1323). ومن هنا لا بد من الاستعداد الروحي. وهذا الاستعداد يتطلب منا ان نكون في حالة النعمة والمصالحة الأخوية والصوم القرباني والشكر بعد المناولة.

حالة النعمة: النتائج العملية التي استنتجها القديس بولس من كلام وضع سر القربان هي أن تناول المرء القربان الاقدس على خلاف الاستحقاق جرم الى جسد الرب، وان تناول القربان حسب الاستحقاق شركة في جسد المسيح ودمه "فمَن أَكَلَ خُبْزَ الرَّبِّ أَو شَرِبَ كَأسَه ولَم يَكُنْ أَهْلاً لَهما فقَد أذنَبَ إِلى جَسَدِ الرَّبِّ ودَمِه" (1 قورنتس 27:11 ). فليَختَبِرِ الإِنسانُ نَفْسَه، ثمَّ يَأكُلْ هكذا مِن هذا الخُبْز ويَشرَبْ مِن هذِه الكَأس. فمَن أَكَلَ وشَرِبَ وهو لا يُمَيِّزُ جَسَدَ الرَّبّ، أَكَلَ وشَرِبَ الحُكْمَ على نَفْسِه. "أَلَيسَت كَأسُ البَرَكةِ الَّتي نُبارِكُها مُشارَكَةً في دَمِ المسيح؟ أَلَيسَ الخُبْزُ الَّذي نَكسِرُه مُشارَكَةً في جَسَدِ المسيح؟" (1 قورنتس 16:10). وفي هذا الصدد قال القديس قبريانوس عن الذين يتناولون الافخارستيا دون توبة ولا مصالحة: "انهم يغتصبون جسد الرب ودمه، فهم يخطئون الآن اليه باليد والفم، فيأتون جرما اكبر من نكرانهم له" (في الساقطين 16). وهذا ما دعا الكنيسة إلى أن تأمر بأن لا يجرؤ أحد، تثقل ضميره خطيئة مميتة، على تناول جسد الرب إلا بعد أن يعترف بخطاياه. وعليه فإنه من رأى انه في حال الخطيئة الجسيمة ان يمتنع عن تناول جسد الرب قبل الاعتراف السري اولا.

مصالحة مع القريب: لا يمكن ان يتناول القربان الاقدس من لا يكون في علاقة قويمة مع الآخرين. فيقول الكتاب "فإِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إِلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك" (متى 5: 23). لا تكون التقوى حقيقية إلا إذا احببنا الله والقريب في آن واحد. "إِذا قالَ أَحَد: إِنِّي أُحِبُّ الله وهو يُبغِضُ أَخاه كانَ كاذِبًا" (1 يوحنا 4: 20).

المشاركة في القداس الالهي: ان القربان الاقدس هو ذكر لسر المسيح الفصحي بين البشر. لذلك فهو ينبوع النعمة كلها. فلا بد من الاستعداد الروحي للمتقدم الى تناول جسد الرب بالمشاركة في القداس الالهي فيتحد فكرا وقلبا بالقداس الإلهي، الذي يخلِّد ذبيحة الصليب، وبالوليمة المقدسة، حيث يتناول جسد المسيح ودمه، وينال بذلك خيرات الذبيحة الفصحية، ويجدد العهد الذي قطعه الله بدم المسيح للبشر، ويتهيأ للوليمة الأبدية في ملكوت الآب، بإيمان ورجاء، مخبرا بموت الرب إلى أن يأتي. فالمناولة تساعد المؤمن للاستعداد لحياة الابدية "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 54) وفي هذه الصدد يقول القديس ايريناوس "جسدنا الذي يُغذِّيه جسد المسيح ودمه هو عضو من اعضائه ولذلك "فهو جدير بقبول عطية الله التي هي الحياة الابدية" (5: 2: 3).

الحمد والشكر بعد التناول: على المؤمن بعد التناول ان يقضي بعض الوقت في رفع صلاة حمدٍ وشكرٍ حتى يدرك سمو هبة التناول. فالإفخارستيا فعل حمد وشكر وهدفها الاتحاد بالمسيح اتحادا يدفع المتناول الى ان يجعل من حياته اليومية حياة حمد وشكر بقيادة الروح القدس وأن يأتي ثمار المحبة.

التناول على الاقل مرة في السنة: أوصى سيدنا يسوع المسيح بالاحتفال بالقربان الاقدس بقوله "اعملوا هذا لذكري" والقديس بولس يطالب بتجديد العشاء تذكار موت الرب" فإِنَّكُمَ كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتي" (1 قورنتس 26:11). ومن هنا جاءت وصيَّة الكنيسة وهي ان يلتزم كل مؤمن، بعد قبوله المناولة الاولى، بواجب قبول المناولة المقدسة مرة واحدة في السنة على الاقل. وعليه ان يقوم بهذا الواجب خلال الزمن الفصحي، الا اذا قام بإتمامه في وقت اخر من السنة، لسبب صوابي (الحق القانوني 920). واما المرضى فيحرصوا ان يتناولوا وهم لا يزالون بكامل وعيهم. ويجب الا يؤجل لمدة طويلة، منح القربان المقدس كزاد اخير للمرضى الموجودين في خطر الموت (الحق القانوني 921).

الصوم القرباني: على المقبل على تناول الافخارستيا المقدسة أن ينقطع لمدة ساعة واحدة على الاقل قبل المناولة المقدسة عن كل طعام وشراب، عدا الماء والدواء. اما المتقدمون في السن والمرضى والقائمون على رعايتهم فيستطيعون ان يقبلوا الافخارستيا المقدسة، وان كانوا قد تناولوا شيئا ما خلال الساعة السابقة (الحق القانوني (919).

التطواف القرباني: يطوف المؤمنون بالقربان المقدس كشهادة ايمان وتقوى خاصة بمناسبة عيد جسد الرب ودمه.

اضاءة شمعة او قنديل زيت ليل نهار امام القربان المقدس في الكنائس ليست سوى فعل إيمان بوجود يسوع تحت شكلي الخبز والخمر.

المناولة الروحية: إنّ القديس ألفونس دو ليغوري يشدّد كثيرًا على المناولة الروحية وكذلك البابا بندكتس السادس عشر. وتقوم المناولة الروحية على الرغبة بالمناولة كالصلاة التالية: "يا يسوع أنا أؤمن بك بأنك موجود حقًا في سر القربان بجسدك ودمك ونفسك وألوهيتك. وبما أنني لا أستطيع حاليًا أن أتناول القربان فأرجوك أن تأتي وتسكن روحيًا على الأقل في قلبي. تبارك يسوع في سر القربان الاقدس".

عيش الحياة المسيحية: ينتهي القداس بإرسال المؤمنين "اذهبوا بسلامك المسيح" ليحققوا إرادته تعالى في حياتهم اليومية ويوصلوا يسوع الى كل البشرية كما جاء في قول البابا القديس يوحنا بولس الثاني "مِن القربان نستمد القوّة لكي نعيش الحياة المسيحية حتى نتشارك هذه الحياة مع الآخرين".