Home French اتصلوا بنا سجل الزوار

الدعوة الرهبانية

رهبنة الوردية المقدسة

 

جروح الحياة ومسيرتنا الروحية

 
 

جروح الحياة عثرة أسقطت كثيرين في المسيرة الروحية و أخفت وجود الله أو شوهته لآخرين. بدون علم أو إدراك أوقفت العديد في الطريق. حطمت حياة آخرين، في زواجهم أو كهنوتهم أو حياتهم المكرسة وبالأحرى منعت البعض من اتخاذ طريق محدد في الحياة. هذه الجروح هي قوة دفينة تولدت في أعماق نفوسنا بسبب ظلم أو إهانة أو تعدي أو شر تلقيناه منذ الصغر أو الكبر ومازال يؤثر فينا وفي قراراتنا حتى دون أن ندرك أو نعي ذلك. هي قوة مسيطرة تكمن سيطرتها في مدى جهلنا بها وعدم رغبتنا في مواجهتها وتفقد سيطرتها علينا بالتأمل فيها على ضوء كلمة الله الشافية. هذا ما يؤكده أباء الصحراء. وهذا ما أود ان اعرضه في هذه المقالات البسيطة متبعا تفسير الراهب أنسلم جرون، الراهب البندكتيني.

نعم حديثي سيكون عن جروح حياتنا وكيفية استثمارها كقوة دفينة لا للتدمير بعد ولكن كقوة دافعة في مسيرتنا الروحية، حيث هذه الجروح تصبح علامات مجد. نعم كجروح المسيح والتي ظلت حتى بعد القيامة وأصبحت وسيلة كي يتعرف عليه التلاميذ ويتأكدوا انه المعلم. أصبحت جروحه مصدر شفاء لنا ولجروحنا. والآن هو ممجد في السماء، عن يمين الأب، ويحمل جروحه، وبها يتشفع لنا، يقدمها لنا كدليل على حب مجاني غافر ورحيم. نعم حيث أصبحت جروحه مصدر للخيرات الروحية والنعم المقدسة. هذا ليس تقديس للجروح ولكن إعجاب بقدرة الرب المبهرة القادرة أن تنزع من عمق الموت حياة ومن الصخرة ماء.

فما هي هذه الجروح حسب الآباء؟

أول شيء يؤكدوا عليه الآباء، أن جرح الآخرين لنا، الوالدين، الأخوة، الأصدقاء، الأحباء والأقارب، وغيرهم ما هي إلا وسيلة كي نتعرف بها على أمراضنا العميقة وعلى الأمور التي لا أتقبلها في ذاتي أو في الآخرين. هذه الجروح وسيلة كي أتعرف على طموحاتي الدفينة والتي أسعى دائماً وبدون إدراك في أوقات كثيرة أن أحققها مهما كان الثمن. وسيلة كي أتعرف على الأوهام التي بنيتها عن حياتي أو عن الآخرين وكيف يجب أن يكونوا. الجروح هي وسيلة لإسقاطي من هذا الفردوس المزيف والوهمي الذي بنيته لنفسي كي اهرب مرات عديدة من واقع لا أود ان أراه أو أواجه.

أفكر في هذا الطفل أو الشاب والذي يصعب عليه الدراسة لأنها تؤلمه وتقيده فيهرب وراء لعبة افتراضية وهمية ساعات وساعات خلف شاشة الكمبيوتر. في العمق اللعبة تقوم بدور واحد فقط تبعده عن واقع لا يحبه. ويأتي هذا الصوت من الخلف ويقول له "كفاية فوء بقى للمذاكرة". هذه هي الخدمة التي من الممكن ان تقوم بها الجروح، هي صوت كي " نعي ونستيقظ الى الواقع.

أباء الصحراء يؤكدوا على أهمية مواجهة هذه الجروح وعدم الهروب منها أو محاولة تناسيها فهي أعراض لمرض يجب معرفته والشفاء منه. وهذا ممكن، من الممكن الشفاء من هذه الأمراض النفسية العميقة، فتصبح الجروح إمكانية لإعلان قدرة الله الشافية من خلال الكلمة والأسرار المقدسة وحياة الجماعة الكنسية. كيف؟

يأتي راهب ، منذ الصغر نال الكثير من اهانات واعتداءات، ولكنه تناسى هذا الأمر ولا يرغب في ذكره، ويقول للمعلم سيوسوس "أنا اجعل من كل شخص ومن كل حبيب عدو لي، أرغب أن انتقم من كل إنسان وكأني أود أن ادفعه ثمن شيء لا اعرفه، كل من أحبهم بلا إدراك أتخيل أنهم أعداء لي، وبطريقتي اكرههم في فيصبحوا أعداء بالفعل.

فيرد المعلم؛ "لنصلي يا أخي: فقام وقال: يا رب لا نحتاج لك بعد الآن، فسنأخذ نحن حقنا بذواتنا وسننتقم ممن فعلوا الشر فينا، وان لم نراهم سننتقم منهم في آخرين ، في كل من حولنا". ( أقوال الآباء ١، ١٦١ اا).

وعندما سمع الراهب هذه الكلمات رأي أمامه كل الشرور التي نالها ورغبته العميقة في الانتقام من الجميع حتى ممن لا ذنب لهم. فهم ان مرضه هو رغبته أن يحل مكان الله وان ينتقم لذاته، فهم أن تلك الجروح كانت وسيلة كي يفهم مرضه، تلك الرغبة الدفينة والخطيئة العميقة أن يكون مكان الله. فركع وقال للمعلم لن أجرح بعد اليوم أخا، سامحني يا أبتي.

ما هذا الإلهام، ما هذا الذي أراه، تلك الجراح أصبحت وسيلة في يدي الله كي يظهر للراهب مرض عميق، قد يسبب في هلاكه. هذا ليس تواضع مزيف، الراهب لا يترك الانتقام لأنه عيب أو حرام. الراهب يترك الانتقام لأنه رأى أن من هذه الجروح الرب قادر ان يستخرج منها خير له. الراهب يترك الانتقام لان رأي ان حياته لم تخرج من أصابع الله ولم تسقط من تحت نظره، الراهب يترك الانتقام لان رأي الرب قادر حتى على قوى الشر.

وبهذا لا اقصد ان الرب يريد جراحانا او يسمح بها او غيره فهذا ليس بموضوعي هنا. هذا أمر آخر. ولكن هنا أقول الرب قادر ان يخرج من الصليب قيامة . ومن الجروح شفاء لإمراضنا. كيف؟

جروح الحياة، نعم عثرة أسقطت كثيرين في المسيرة الروحية و أخفت وجود الله أو شوهته لآخرين، هكذا أكدنا في المقالة السابقة. هي قوة مسيطرة تكمن سيطرتها في مدى جهلنا بها وعدم رغبتنا في مواجهتها وتفقد سيطرتها علينا بالتأمل فيها على ضوء كلمة الله الشافية. بل وتتحول لقوة تدفعنا في الطريق. هذا ما يؤكده أباء الصحراء.

رأينا أن هذه الجروح قد تكون وسيلة كي نتعرف بها على أمراضنا العميقة وعلى الأمور التي لا أتقبلها في ذاتي أو في الآخرين. وسيلة كي أتعرف على الأوهام التي بنيتها عن حياتي أو عن الآخرين وكيف يجب أن يكونوا. الجروح قد تقدم هذه الخدمة وهي إسقاطي من هذا الفردوس المزيف والوهمي الذي بنيته لنفسي كي اهرب مرات عديدة من واقع لا أود أن أراه أو أواجه.

وهنا نتقدم خطوة إلى الأمام. هذه الجروح قد تتحول إلى قوة تدفعنا وبقوة إلى الرب والى تحقيق مشيئته. كيف؟

فحص الأفكار. نعم يؤكد ايفاجريو أن الوسيلة القوية كي نتحرر من جروح الحياة بل ونحولها إلى قوة هي أن نفحص أفكارنا باستمرار ونفهم من أين تأتي، فيقول: يجب علينا أن نفحص أفكارنا مثل الحارس على الباب ونسأل كل فكرة قبل أن نستقبلها في قلبنا: هل أنت من أحبائنا أم من أعدائنا؟ إذا كانت من أحبائنا، من عند الله، ستمنحنا هذه الفكرة سلام وفرح وطمأنينة وتوبة، وإذا كانت من عدونا، من إبليس، ستمنحنا الحزن والغضب والشهوة. (رسائل 11).

نعم هكذا يؤكدوا الآباء على أهمية فحص الأفكار والتمييز عليها. فلا يجب أن نخاف من أفكارنا، لا يجب أن نطمسها، ولا يجب أن نخجل منها. من المهم أن نميز عليها ونفهم هل هي من الله أم لا. وإلا هذه الأفكار، وان كنا نخجل منها ولا نتحدث عنها أبدا، ستسمر في قيادتنا بدون إدراك. لكن فضحها وإعلانها يفقدها قوتها.

ايفاجريو يساعد احد الرهبان، دائما حزين، فيقول له: قل لي يا أخي، أي جملة تتكرر على بالك وفي ذهنك طوال اليوم؟ فيرد الراهب :"لا احد يحبني، لا احد يعتني بي". وهنا يفهم الراهب، أن سبب حزنه المستمر هو قبوله لهذه الفكرة، قبوله لهذه الجملة. هو مقتنع بذلك. لأنه منذ الصغر شعر برفض والديه، او باهتمامهم بالآخرين أكثر منه. هذا الجرح أنتج له هذه الفكرة المستمرة والدائمة. وهو كل يوم يؤكد عليها ويقبلها، فيجعل هذا الرفض واقع أيضا اليوم. مات الوالدين، ولكنه مازال يشعر بهذا الرفض حتى الآن، لأنه يقبل الفكرة. فيقول له ايفاجريو: كل مرة تأتي هذه الفكرة ردد بصوت عالي وقل "الرب راعي فلا يعوزني شيء".

وهنا يفهم الراهب أن هذا الجرح وهذه الفكرة هي إمكانية كي يتأمل أكثر في حب الله. أن هذا الحب الذي ينتظره، لن يجده إلا في الحبيب الوحيد، يسوع المسيح. هذا الصليب، هذا الرفض، دفعه كي يعرف الرب كراعي.

هنا يفهم الراهب ويؤكد ايفاجريو أن هذا الجرح قد يساعدنا كي نبدأ أن نتأمل في حب الله لنا. وهنا نصل الى بداية الحياة الروحية والمسيرة المقدسة، التأمل في الله، ان ننزع أنظارنا من على أنفسنا ومن على الآخرين، ونتأمل في الله. يقول الرب لبطرس، مالك وماله، أنت اتبعني. ففي التأمل والصلاة هناك إمكانية كي نستريح من جراحنا ونجد معنى لها.

هذا التأمل يهدف ليس فقط إلى شفاء جراحنا بل إلى معرفة الله، والتي هي أجمل بكثير من أي شي أخر جميل. فهو الوحيد القادر أن يملأ كيان الإنسان، مكرس أو متزوج. هو الوحيد القادر أن يملا كل فكر ومشاعر وأحاسيس ورغبة. فليس الهدف الشفاء، بل معرفة الرب. شفا المسيح عشرة برص، لكن واحد فقط رجع وشكر الرب. واحد فقط فهم أن هناك أهم من أن نشفى. نعم، أن نعرف الشافي. التسعة اكتفوا بالشفاء. وهو وجد الشفاء الحقيقي.

معرفة الرب والاتحاد به لا يمكن أن يمنعنا عنها حتى جروح الحياة، بل بالأحرى قد تكون وسيلة لتدفعنا لمعرفته أكثر.
 

 
 
 
 
 
 
 
   

كتاب كاتمة سر العذراء

مواقع مسيحية

 اضفنا للمفضلة اجعلنا صفحة البداية